لم تكن جائزة البوكر للرواية العربية التى فاز بها الروائى العراقى أحمد سعداوى هى الجائزة الأولى له، بل فازت روايتاه السابقتان بجوائز مختلفة.
فقد فازت رواية "البلد الجميل" بالجائزة الأولى للرواية العربية بدبي (2005)، وفازت رواية "إنه يحلم أو يلعب أو يموت" بجائزة هاي فاستيفال البريطانية لأفضل 39 اديباً عربياً دون سن الاربعين (2010)، كما أصدر أربعة دواوين شعرين وعددا من القصص التى نشرت بالصحف والمجلات، وما يلفتك فى روايته الأخيرة هو الأداء المبهر فيها والذى يتجاوز الكثير من الروايات التى فازت بنفس الجائزة.. ومع أحمد سعداوى كان لنا هذا الحوار...
> حددت الفترة ما بين ربيع 2005 وشتاء 2006 زمنا لأحداث روايتك "فرانكشتاين فى بغداد", لماذا اخترت ذلك الوقت؟
أنا أرى أن التجربة التي اصطلح عليها عراقياً بأحداث العنف الأهلي، أو التي يتجرأ البعض ليرفعها الى مستوى الحرب الاهلية الصريحة، والتي حدثت ما بين عامي 2005 و 2007 هي تجربة لا ينبغي تغطيتها ونسيانها سريعاً، لأن مفاعيلها ما زالت موجودة على الأرض ولم تنته, فنحن لم نتجاوز هذه التجربة العنيفة والقاسية بعد، ومن الممكن أن تتكرر بذات المستوى في أي لحظة، بالاضافة الى أن اعمال العنف ذات الطابع الطائفي والعرقي ما زالت موجودة في الواقع اليومي العراقي، وإن كانت بنسب منخفضة قياساً بتجربة 2005-2007.
كل الفعاليات الاجتماعية والسياسية والثقافية لم تنجز لحظة قطع مع تجربة الحرب الاهلية. كلنا نحاول التغطية على مسئولياتنا الفردية في هذه الحرب، وننسب ما جرى للآخرين، الذين قد يكونون طرفاً خارجياً، او فئات وجماعات سكانية مغايرة لنا في الطائفة او العرق. كلنا نريد النظر الى أنفسنا على أننا ضحايا لهذه الاحداث العنيفة والدموية، ولا نريد الالتفات الى مسئوليتنا عنها.
ما أرغب به على المستوى البعيد، هو الحصول على لحظة ندم. حين نصل الى هذه اللحظة فإننا نكون قد وقفنا على سكة جديدة، وصارت التجربة الدموية والقاسية من الماضي فعلاً.
أنا كتبت الرواية عن هذه الأحداث، وهناك روايات أخرى كتبت عن ذات الأحداث، وأعتقد أننا بحاجة إلى أعمال أكثر تفحص هذه التجربة القاسية، لأنها تجربة كاشفة ومهمة في فهم ما يجري لنا اليوم.
> اختيار حى "البتاويين" ليكون مسرحا لأحداث الرواية.. هل له مغزى إبداعى؟
أحداث الرواية ما كان لها أن تجري إلا في حي البتاويين، لأنه أولاً يقع في مركز العاصمة بغداد، وثانياً لأنه حي متنوع عرقياً ودينياً وطائفياً، وهو المكان المناسب لولادة"الشسمه", هذه الشخصية المكونة من جذاذات ضحايا ينتمون الى فئات اجتماعية متعددة. كذلك هذا الحي لديه ذاكرة خاصة ترتبط ببدايات تكوين الدولة العراقية الحديثة، وما جرى له من صعود وانهيار كحي شعبي يقدم لي مجازاً عما جرى للدولة العراقية خلال قرن.
> "فرانكشتاين فى بغداد" يمكن أن تصنف على أنها رواية خيالية وواقعية وبوليسية وتراجيدية وأيضا من نوع الكوميديا السوداء.. كيف تمكنت من "تضفير" كل هذه التوجهات الإبداعية فى روايتك؟
كنت واعياً تماماً أن الرواية تشتغل على عدة مستويات، وأعتقد أن النجاح في نسج هذه المستويات هو ما ميزها. ولدىَّ إيمان عميق بأن فن الرواية هو فن تركيبي، وهو يمتص فنوناً كتابية مجاورة، ويرحّل تقنيات من فنون أخرى، ويوظف كل ما من شأنه إثراء العمل الروائي وتوسيع مساحته خيالياً وابداعياً. ولكن هذا كله لا يعني في النهاية سوى اختيارات محددة، وبإمكان الرواية الكبيرة والمهمة أن تولد باستخدام مستويات أخرى. هناك روايات، بسبب موضوعتها، لا يمكن إلا أن تُروى بمستوى واحد، ولا يمكن لخيارات فنية معينة ينتقيها الكاتب أن تلغي أهمية الخيارات الأخرى المتروكة.
> الطالب فيكتور فرانكنشتاين صانع المسخ الذى اشتهر باسمه فى رواية "فرانكنشتاين"للأديبة البريطانية ماري شيلي هو طالب ذكى يجرى تجاربه فى الجامعة، بينما هادى العتاك صانع فرانكشتاين فى روايتك "فرانكشتاين فى بغداد" شخص ليست له درجة علمية بل يعمل فى بيع الأجهزة المستهلكة.. فلم جعلت بطلك من قاع المجتمع؟
هناك علاقة تناص تهكمي ساخر بين صانع الوحش في رواية ماري شيلي ورواية فرانكشتاين في بغداد، بالإضافة إلى أن هادى العتاك له دلالة رمزية، فهو جامع المهملات من الاغراض المتروكة، والذي ينتقل الى المهملات البشرية. إنه يستمر بوظيفته نفسها ولكن بالانتقال الى مستوى أكثر رعباً، حيث تتحول الأجساد البشرية واشلاؤها المتناثرة الى مجرد نفايات ومهملات في زمن الموت المتكاثر، حتى ثلاجات الموتى في مشرحة بغداد كانت تغص بالجثث في ذلك الوقت، ليضعوا الزائد منها في الممرات وعلى الارض. إنه زمن انتفاء قيمة الانسان، وانهيار القيم كلها.
> وصفت كتابة رواية "فرانكشتاين فى بغداد" بأنها المغامرة الأكبر.. لماذا؟
لا اتذكر أنني قلت هذا، او بهذه الكلمات. ولكن الكتابة دائماً، خصوصاً كتابة الرواية، هي مغامرة، فلا شيء مضمون، ولا نتائج واضحة. والكاتب يستمر بالكتابة بطاقة الأمل ودوافعه الخاصة من الكتابة.
بالنسبة لروائي يعيش في بغداد ولم يغادرها، فإن المغامرة هي البقاء حياً وتجنب الحوادث المؤسفة في مدينة عنيفة، واضطرارك للحركة في شوارع المدينة واحيائها بسبب حاجات العمل أداء المسئوليات الاجتماعية، او حتى الرغبة الطبيعية بلقاء الأصدقاء والتسوق وما الى ذلك. وقد حصل لي، مثل آخرين، أنني كنت شاهداً، لسوء الحظ، على حوادث تفجير ارهابي، وكنت على شفا أن اصاب بها، وهذه تجربة صارت معتادة ومألوفة لدى الكثير من العراقيين. المغامرة أيضاً أنك تكتب ليس اقتفاءً لأثر سابق عليك، وانما اقتحاماً لفضاءات جديدة، ومحاولة لتكييف عناصر كتابية، لا تعرف هل ستنجح فيها أم لا. والمغامرة أيضاً هي تلك التي يعانيها الكثير من الكتاب في العالم العربي، حين تدفعهم متطلبات الحياة العامة إلى ظروف لا تناسب الكتابة الروائية، فيقاوم هذه الظروف بشتى الوسائل من أجل إيمانه بالكتابة والرواية والاستمرار من أجل الإنجاز.
> بدأت حياتك الإبداعية شاعرا.. ولك أربعة دواوين شعرية وثلاث روايات فقط.. ورغم ذلك فإنك توصف دائما بالروائى.. فلماذا؟
ربما للنجاحات التي حققتها رواياتي، وأيضاً لأن دواويني الشعرية صدرت في زمن الحصار على العراق، وكانت بنسخ محدودة، لذلك لم تنتشر كثيراً. ولدي مجموعة شعرية جديدة جاهزة الآن، بالإضافة الى مجموعة نصوص، ومجموعة قصصية، وستجد طريقها الى النشر قريباً.
> المشهد الروائى فى العراق.. إلى أين يمضى؟
لا يختلف المشهد الروائي في العراق عن غيره في البلدان العربية الأخرى. هناك أجيال كتابية متعددة، وتجارب وأساليب متنوعة. هناك نشاط نوعي في كتابة الرواية، وحسب بعض الإحصائيات هناك حوالي 200 رواية صدرت في العراق خلال السنوات العشر الماضية، ليست كلها بمستوى جيد، ولكن هذا الكم يعكس حجم الاهتمام والاقبال على الرواية كتابةً وقراءة. والرواية اليوم لها دور مؤثر في وعي القراء، وبالذات الأجيال الجديدة والشابة، وإدراك هذا الدور ربما يساهم في توجيه خيارات الكتّاب، وأن يتعاملوا بمسئولية أكبر مع فعل الكتابة الابداعية. فليس مهماً إصدار رواية، بقدر أهمية أن تكون هذه الرواية إضافة فعلية على المنجز الروائي الوطني أو القومي. ومن الضروري لكل كاتب أن يرفع سقف طموحاته عالياً، وأن ينظر إلى نفسه في سياق التجربة الروائية العالمية قدر الإمكان.
مرحلتك الإبداعية قضيتها كاملة فى ظروف حرب وقتل وإرهاب ودماء تمر بها العراق ولم تنعم بالإبداع فى أجواء السلام.. كيف أثر ذلك على إبداعك؟
من خلال التكيف، وخلق "فقاعة" خاصة تتوفر فيها فرص الحياة والاسترخاء. أنت لا تكون في الشارع على مدار الساعة، أو امام شاشة التلفزيون التي تبث الأخبار والتقارير عن الحوادث العنيفة. وقد مرت عليّ أيام لا أخرج من البيت إلا لشراء احتياجاتى، وأقضي أسبوعاً أو أكثر في القراءة والكتابة، في عزلة اصطناعية عن العالم الخارجي وعن اللقاء مع الأصدقاء وتداول الأحاديث العامة التي تثير التوتر والقلق والإحباط غالباً. ذكرت في مرة أنني لم استطع انجاز المراجعة الأخيرة لروايتي "فرانكشتاين في بغداد" إلا بالسفر خارج بغداد. وهكذا، من يريد الاستمرار بمشاريعه سيلزم نفسه باختلاق ظروف تساعده على العمل.
> وصفت "الشسمه" أو فرانكشتاين البغدادي، بأنه: كائن ينتمي لنا جميعاً.. كيف ذلك؟
إنه رمز، فهو مكوّن من أعراقنا وطوائفنا، هو يشير الى ذاتنا الوطنية الجامعة أولاً، وهو ثانياً يشير الى مأزقنا الأخلاقي باجتماع الضحية مع المجرم، وكيف أننا نغطي على الجانب المجرم في شخصياتنا، ولكنه يتكشف بوضوح في "الشسمه"، وهنا يرتد السؤال من هذه الشخصية الى ذواتنا نحن؛ هل كان صمتنا على القتل وتطامننا وتأييدنا الضمني للقتل الذي يجري للطائفة الأخرى، او سكوتنا على الجريمة بمعناها الإنساني واستخدامنا للمنظور الإثني والعرقي والفئوي في تصنيف الضحايا الى "ضحايانا"و"ضحاياهم"، وما الى ذلك من ارتكابات أخلاقية، هل كان كل هذا أمراً طبيعياً يتيح لنا النوم براحة، أم انه أساس الجريمة وجذرها العميق؟ هذا ما حاولت أن أكثفه برمز"الشسمه" داخل الرواية.